بعض حكاياتي: شيخ الصحافيين/ أستاذي

بعض حكاياتي: شيخ الصحافيين/ أستاذي

 

الأستاذ محمد كعوش الفلسطيني الذي ظل يخوض بحر حنينة الدائم  لقريته (ميرون) المتكئة على جبال الجرمق، يحملها معه اينما ذهب، وعندما إستقر في عمان عشقها واعطاها من روحه الكثير، فصار نموذجا للفلسطيني الاردني بكل ما ما فيه من وعي ومحبة……

كانت الفوضى غير الخلاقة تطبع ايامي الاولى في بيروت، طالبة بكلية التجارة لا تحب تخصصها، بدايات السير القلقة على طريق الحرف المطبوع، جروح نازفة وآلام مكبوته اثر انكسارنا الايلولي، فوضى اللقاءات الحزبية لتفسير ما وقعنا به في اربد وعمان والاحراش ولا شيء منها كان مقنعاـ بالنسبة لي على الأقل ـ على الرغم من فخامة المصطلحات والأيديولوجيا، وقدرة البعض على التنظير، لم أكن ضائعة بمعنى ما، بقدر ما كنت قلقة، ومعدومة الثقة بكل شيء…….

بكل هذا التشظي التقيت به في مجلة الدستور اللبنانية…. هاديء مبتسم يجلس وراء مكتب متوسط الأناقة، بعد ترحيب بسيط غير متكلف أخذ اوراقي وبدأ بالقراءة…

لم أعرف عنه إلا أنه الاستاذ الذي سيقرر قبولي للتدرب في المجلة أوعدمه، وهو لم يسألني عن إسمي ولم ينتبه الى الاسم الموقع، فبادرني بالسؤال بعد أن أكمل قراءة عدة صفحات مما أعطيته، أجبته بسرعة وأنا أنظر بقلق الى كم الاوراق التي لم تقرأ…

(التل التل ماغيرهم) بلهجة مغرقة بفلسطينيتها سأل ضاحكا، بدون تردد وبعصبية اجبت: (شو يعني)، إنفجر ضاحكا…انا لم أضحك… وضع الاوراق جانبا.. وبهدوء اجاب: (تل… جبل لا يهمني، ما يهمني قدرتك على العمل الصحفي هل انت مستعدة؟) اجبت بهدوء واثق لا أعرف من أين استحضرته : (بعد ان تدربني جيدا نعم بالتأكيد)…. ضحك وأثنى على ثقتي وقدرتي على الكتابة مبدئيا، أعطاني موعدا لليوم التالي، وخرجت لا الوي على شيء… في المساء عندما التقيت بزميلي الذي يعمل في المجلة، الذي قدمني للتدرب، أنه الأستاذ (محمد كعوش ، مدير التحرير) طبعا بعد أن وبخني لنزقي وعصبيتي في التعامل معه، وأكد أنني محظوظة لأنني ساعمل معه مباشرة، وأوصاني بالهدوء، وتعلم كل شيء، لأنه مدرسة صحفية قائمة بذاتها…..

في اليوم التالي ذهبت الى الموعد مجللة بخجلي… لاحظ أمري، فطلب القهوة ليمنحني شيئا من الهدوء ووقتا للتماسك، تعارفنا أكثر… وبدأت دروسي في مدرسة الأستاذ الصحفية…..

أقول الحق وبعد هذه التجربة الطويلة في العمل الصحفي، إني مدينه له بكل ما تعلمته من تقنيات العمل الصحفي، والآن، وأنا أقلب ارشيفي، استعيد ذكرى كل ما كتبت وأنا معه، استعيد خناقاتنا وضحكاتنا، فعندما بدأت معه، كنت اجيد الكتابة الى حد ما، وكنت اميَل الى اللغه الادبية، علمني كيف اوظف هذه القدرة لخدمة ما أنجزه من تحقيقات او مقابلات، ساعدني على تعزيز حس الملاحظة لالتقاط الموضوع الصحفي، فضلا عن كل مايتعلق بالصحافة والكتابة الصحفية، بدأ من المطبعة وصولا الى الموضوع الجاهز للدفع الى الطباعة، وكل المراحل التي يقطعها الصحفي بدأ من الفكرة إلى الإنجاز الاولي إلى الكتابة المتكاملة إلى اختيار العنوان الرئيسي والعناوين الفرعية _وهو ملك العناوين_ وصولا الى النهاية….وعندما تعجز الصحافة بطابعها الإخباري السريع عن استيعاب فكرتي، كان ينصحني بهدوءـ اكتبيها قصة فانت أولا واخيرا كاتبةـ

في مدرسة الأستاذ ومعه كبرت، سنوات أمضيتها معه، وقد إتخذت علاقتنا ماهو أكبر من مجرد زمالة، وصرنا نتبادل الادوار،  هو يتابع ما اكتب وانا اقرأ ما يكتب وكان معلقا سياسيا مهما، وكاتبا ساخرا احيانا، بخاصة في مرحلتي بيروت والكويت، نتبادل الملاحظات، ولم يعد شكل الكتابة مهما بقدر أهمية المضمون، وصرنا نختلف، لكننا دائما نشعر بتكاملنا هو بهدوئه واعتداله، وانا بتوتري الدائم وميلي الى المغامرة في حياتي اليومية وفي اختياراتي المهنية، وكان على الرغم من خوفه عليّ يشجعني على المضي قدما……

معه صار لبيروت طعم مختلف، لم تعد مجرد مقهى رصيف عابق بالثرثرات الفارغة ودخان السجائر الرخيصة، على الفاكهاني، كانت بؤرة تنوير ساعدني على التجول في ارجائها والاستفادة من تنوعها وغناها ، وبعد كل جولة وفي آخر الليل يطوقني بعقد من زهور الفتنه فائقة العطر نودع البحر ونمضي ….

ساعدني على التخلص من كثير من عقد المثقفين الثوريين، وبخاصة عقدة تقديس الشخصية الفلسطينية، لأنها صاحبة قضية عادلة، ساعدني على التخلص من تطرفي في قبول الناس(اسود/ ابيض) فتعلمت قبول الناس لانهم بشر من لحم ودم واعصاب، ولهم قدرات متفاوته، وأنهم ليسو قديسين في اغلب الاحيان، وعلمني أن الهزيمة مسالة داخلية، فاذا هزمت دواخلنا هزمنا، اذكر حواراتنا بهذا الصدد عند توقيع اتفاقيات اوسلو في عمان، وكنا قد خضنا تجربه مشابهة عند توقيع كامب دفيد…..

وعندما بدأت التصوير أهداني كاميرا فخمة للتصوير الصحفي، ومعه سجلت بهذه الكاميرا اجمل اللحظات……

على الرغم من إنفصالنا على الصعيد الشخصي،  اذكر بإمتنان دفاعه القوي عني، عندما فكر الكثر من الزملاء والزميلات أنني ساتوقف عن الكتابة، ظننا منهم أنه من يكتب لي، كعادة الناس اللذين لا يثقون بقدرة المرأة، ودائما هناك رجل يقوم بما لا تستطيعه، كان دفاعه قويا،(سهير ليست بحاجة للأستاذ) وكان واثقا بقدرتي على الاستمرار، وهكذا كان، كما اذكر بإمتنان تبنيه للقضايا التي واجهتها في حياتي المهنية والسياسية، قضية قصة المشنقة بعد أن أتهمت وحوكمت بتهمة كتابة ادب إباحي، كان يهاتفني يوميا ليطمئن على مجرى المحاكمة ويشد من أزري ، وأذكر جيدا موقفه في جريدة العرب اليوم، عندما إشتبكت مع وزير ثقافة بقضية تخص نشاط تطبيعي قذر، فكان مع الزميل علي العامري والجريدة منبرا لبيان وجه نظري، كان يهاتفني يوميا، ينصحني بالهدوء ويشد من أزري في معركتي غير المتكافئة مع وزير وجيش من المطبعين هزازي الذنب، ظل فخورا بي وأذكر انه قال لاحد اصدقائنا المشتركين حينها ( سهير تجاوزت الأستاذ) وأنا كنت ولا ازال فخورة به وبالتتلمذ على يديه…..

حقيقة اننا أنهينا علاقتنا الشخصية الرسمية، لكن تجربتنا المهنية والفكرية والإنسانية، دفعتنا معا الى الإحتفاظ بعلاقتنا في اطار صداقة وثيقة غنيّة بالود والاحترام، عبرنّا عنها بحواراتنا ورسائلنا المتبادله….

اخيرا ….اذكر يوم استشهاد صديقه الحميم غسان كنفاني في بيروت، أتاني وكنت أستعد لتقديم إمتحان في اليوم التالي، كان يبكي كطفل ضيع أمه في الزحام، ضمني بقوة وكأنه يهرب من قسوة الموت إغتيالا إلى صدري، لم أعرف ماذا أفعل، فأنا التي إعتدت البكاء على صدره، تلمست عذابه وألمه، حضنته بقوة وبكينا معا….. وبعد سنوات طويلة في عمان، بعد أن نشرت غادة السمان رسائل غسان كنفاني، إتصل بي وكان حزينا، عبرت عن ضيقي بعمل غادة، فبادرني بسؤال لم أتوقعه، هل ستنشرين يوما رسائلي اليك؟

رحل الاستاذ… ومازال سؤاله معلقا…