بعض حكاياتي: أمي

بعض حكاياتي: أمي

 

اعرف جيدا أن كل الناس يحبون امهاتهم، ويشعرون بأنهن الكائنات الأهم في حيواتهم، فاتسائل ما الجديد بالكتابة عن امي، وهنا اقول ان حديثي عن امي لا يطرح قضية عامة، بل نموذج من النساء ربما مثله الكثير، نموذج يخصني وحدي واحبه، وهناك بالتاكيد امهات ربما كن اكثر تضحية وعطاء لأوطانهن وأسرهن من أمي …… لكنها ببساطة امي واكتبها لأنها كذلك ……..

(صقرية العلي نيازي) الزعيمة بنت الزعيم، منه اخذت الكثير، الشعور العالي بعزة النفس، الذكاء، القدرة على الكشف وفوق كل ذلك الطيبة والحنان، مكانتها في حياتي اكبر من هذه العجالة ، وارشيف الصور لا يتسع لكل الذكريات، لكن لا بأس بالقليل اليوم …..

الصورة الأولى : انا وهي في محطة سكة حديد في عمان، الزمن زمن الانقلاب 58، ابي سبقنا الى دمشق، المأوى العروبي لمعذبي الارض العربية، اذكر صوتها الصارم وهي تردد على مسامعي اسمي الجديد، الذي ينبغي على ان احفظه جيدا، وأقوله لأي شخص يسألني عن اسمي – وخصوصا العسكر- في المحطة او القطار، وكان اسمي المستعار (ليما)….. كنا نسافر بجواز سفر احدى قريباتها، وتصريح مزور، للالتحاق بوالدي بعد ان منعت من السفر، الابتسامة لم تغادر وجهها البشوش وكانت تشد على يدي بقوة…..

الصورة الثانية: انا وهي بشقة متواضعة في سوق الحريقة( احد احياء دمشق القديمة) وابي غائب بعد إنقلاب عبد الناصر على الشيوعيين، لرفضهم حل احزابهم والانضمام الى الاتحاد الاشتراكي، كثر من دخلوا الزنازيين وبينهم لاجئيين سياسين اردنيين وفلسطينين، وكثر من اختفوا لحين انتهاء الازمة ومنهم والدي، تخفي قلقلها وتداعبني بوجهها البشوش وتغني اغنيتها المفضلة لأسمهان ( نويت أداري الامي….) كان صوتها جميلا …..

الصورة الثالثة: انا وهي في مركز حدود الرمثا، سنعود الى اربد بعد رحلة اللجوء الطويلة، والدي مقيد يسير مع اثنين من رجال المخابرات، وانا وهي نرقب من بعيد عملية اعتقاله ( رغم العفو الملكي الشامل) تشد على يدي لتمنعني من الصراخ، وتحاول الابتسام وهي ترفع يدها ملوحة بتحية يفهمها جيدا ( اصمد انا معك) …

صور كثيرة على بوابات سجن المحطة وامام شبك الزيارة ، وهي كعادتها قوية متماسكة تخبره بقصصنا الجميلة فقط ولا تشكو، وعندما نخرج الى فضاء الطريق تداري دمعة توشك ان تسقط وتبتسم….

صورة أخرى: ابحث عن كتاب في مكتبة الوالد الضخمة، دخلت الى المكتبة سحبت احد الكتب وناولتني… كتاب، كان (الأم)  لمكسيم غوركي وكالعادة تبتسم، وعندما وقعت في تجربة حب المراهقة الاول حضنتني وضحكت ….

وأخرى: جدل حامي الوطيس مع الوالد حول انتمائي لاحدى المنظمات الفدائية، وكنت سنتها في الثانوية العامة، وقفت الى جانبي، ودافعت بقوة عن خياري، شرط ان ادرس جيدا،  كانت تردد ان على كل جيل اختيار طريقه، وأن على تحمل نتائج خياري، وعندما عشت اول الانكسارات الحادة  بعد الايلول القاتم ، وقفت الى جانبي وظلت تبتسم….

كانت ليلة صعبة، الليلة التي ساغادر بعدها حضن امي، وما كنت اظنه وطننا، سهرنا حتى الفجر، غنت وغنت وحملت صوتها كل اشجان ليلة السفر الطويل، حملت صوتها ومضيت ، وظلت تتابعني برحلة تشردي الطويلة بالمنافي الإختيارية والإضطرارية،  الجأ الى صوتها المسجل كلما ضاقت بي الارض، كانت تحب ما اكتب، وتنتقدني بشدة اذا اخطات، وتستمر بالابتسام …..

عندما كبرت قليلا غطت شعرها اسوة بالنساء في عمرها، لم تكن متدينة جدا، لكني كنت ارى الله في قلبها……

 في اخر صورة قبل أن يقعدها المرض سالتها: الى اين أخذك؟ همست الى المشاتل وضحكت….

امي كانت سيدة بشوشة حنونة تحب الجميع وتدافع عن خياراتهم، وكانت تطبخ وتنظف وتزرع وتقرا كل شي،  لكنها كانت تفضل قصص تشيكوف وجريدة الجماهير….