حكايا المدن: موسكو

حكايا المدن: موسكو

 

 بالعادة لا أبني مع المدن علاقات قوية، فالإمعان بالترحال لا يسمح بعلاقات تثير الحنين، وبخاصة أن حياتي ليست اكثر من محطات متواليه، قد أتوقف في إحداها أكثر من أخرى، لكنها تظل محطة ، قد أصور بعض ملامحها لكنني لا أكتبها….

موسكو، مدينة مختلفة، التقيت بها صغيره تقرأ الأدب السوفيتي، شممت رائحتها بحكايا الوالد والرفاق ونشرات الحزب، ولأني أرفض التقديس تعاملت معها من البداية بحذر

هي مدينة لا تسمح لك بمعرفة أكثر مما تريده هي، لك أن تتجول بالساحة الحمراء، وتقف مذهولا أمام عجائبية مباني الكرملين، وأن تعجب بالهندسة الفنية والجمالية الراقية لمحطات المترو، وأن تقف حائرا أمام كتدرائية باسيل، وأن ترتقي بذائقتك الفنية في البولشوي …..

لك أن تنهل العلم من جامعاتها، ولك مطلق الحرية في أن تنهل جماليات ثقافتها المتاحة، او أن تبقى أسير أريكتك تشرب الشاي وتلعب الورق في سكن الطلبة، متمسكا بكل ماحملته معك من القرية البعيدة…..

قد تتسامح اكثر فتدعوك الى أماكن تدفعك للمقارنة بين ثوريّة لينين و صلابة ستالين وميوعة غورباتشوف، تتأمل ذلك كله، لكنك بالتأكيد ستحاول الوصول الى قبر لينين وإقامة صلاتك الخاصة أمام جثمانه…..

 موسكو المنغلقة وراء العمارة الروسية المميزة، بأبوابها الثقيلة السميكة، تخفي قلبها النابض وراء بواباتها السميكة، تعرف جيدا أن باريس تتواضع أمامها، وتتجهم لندن، وتستحي روما، وتبقى هي سيدة المشهد، فهي القادرة على المنع او المنح….

لا أزعم، بالرغم من زياراتي العديدة لها، في الفترة ماقبل الإنهيار الكبير، أنني عرفتها جيدا، لكني أعرف انها أعطتني الكثير، لا بل أكثر مما أتوقع من مرور عابر في مدينة عابرة، لا أتكلم هنا عن ما أتاحته لي من فرص تغطيات صحفية، ولقاءات، وغير ذلك من مدينة تعتبر محجا لطالبي المعرفة الماركسية ( بغض النظر عن الاتفاق والاختلاف والمراحل الزمنية ) وقد قدمت لي الكثير على هذا الصعيد….

موسكو اسقطت كل ما حذري بالتعامل مع المدن، فساعدتني على إسترجاع ما أضعته في زحمة المحطات والمدن العابرة، شتائها القاسي أذاب جليد روحي، أحرقني بلهيب مختلف، شيء عصيّ على البوح، شيء يراوح بين العشق والحلم والأمنيات، ومع لهيب الاحتراق عدت الى التحليق من جديد في آفاق الحرف، موسكو جعلتني أعود الى الكتابة…. لأكتشف أنها هي من يكتبني….

ملاحظة اخيرة: تستغربون أن أكثر مكان أحببته في موسكو كان مقبرتها…