بعض حكاياتي: ابوي

بعض حكاياتي: ابوي

 

ستقولون كل فتاة بأبيها معجبة، صحيح، وأنا فتاة معجبة جدا بابيها، وأجده احسن أب ككل الفتيات، فاسمحو لي….

أجده الآن بعد ان شارفت على السبعين، وانا أعمل بما تركه لي من وثائق واوراق وكتابات وقصائد، انه شخصية مركبّة تصلح لرواية تحكي مسيرة جيل الأربعينيّات الذي خرج من مدن أشبه بالقرى، الى العواصم الثرية كالقاهرة وبيروت، فيتفتح فيها وعيا وثقافة وقدرات علمية، ويعود ليكتب جزء مهما من تاريخ البلاد….

علاقتي به ظلت مشوشة الى حد ما، ففي طفولتي كان غائبا معظم الوقت، عمل ومنفى واجتماعات حزبية، واحيانا سهرات المقاهي والاصدقاء في مقهى الكرنك في دمشق ، لكنه كان حاضرا وبقوة دون ان الحظ….

في مراهقتي كان حضوره صاخبا، كانت تقاسيم وجهه الاردنيّة_ السمار القاتم مع كشرة حسب الاصول_ عاملان في اضفاء بعض الرهبة على حضوره، لكن طيبته الشديدة وشقاوتي كثيرا ما يكسرا التوتر ويحولا النقاش الصاخب الى ما يشبه النكته، كنت مسحوبة من لساني من صغري- كما يقول- وكانت خلافاتنا محصورة بنوعيّة الكتب التي اخرجها من المكتبة الثرية الى غرفة نومي، فيغضب، لأنه يرى أن الكتب والقراءة مكانهما المكتبة، وليس بقية غرف المنزل، وخاصة غرفة نومي، وأنا اكره التمسمر على المكتب للقراءة، اذ لا بد من طلة عن الشرفة لتفقد ابن الجيران بين الفينة ولأخرى، وكان يعرف سري لكنه يتجاهله ويركز على اهمية الحفاظ على رونق الكتاب والتركيز على القراءة…..

أما الخلاف الثاني والأكثر اهمية، فقد تمثل بالانتماء السياسي، فقد كانت صورة الفدائي صاحب اللحية الكثة والفيلد العسكري، ومصطلحات الكفاح المسلح والعنف الثوري، ايقونات صدقناها، حسب وعينا المراهق في ذلك الحين، وهو كشيوعي عريق كان يفضل التمهل والتركيز على الدراسة، بخاصة انني كنت من المتفوقات ، وانتهى الامر بي الى خسارة معدلاتي العالية، وراحة بال والدي الذي اضطر الى اخراجي من الاردن قبيّل ايلول، ربما لانه عرف أنني سأتعرض وأعرض العائلة الى الكثير من المتاعب….

من يوغسلافيا الى سوريا الى بيروت وبقية مدن المنافي، استعدته ابا حنونا مثقفا، من خلال ما تبادلناه من رسائل وفي زياراته لي في بيروت…..

معه عرفت الكثير من تاريخ الحزب، وأسباب إنشاققه الكبير الاول في السبعينيات، وعرفت بعضا من خلافاته مع حزبيين ومواقف، لكنني أبدا لم اسمع منه كلمة اساءة واحدة او تشهير بالحزب، كل ما أعرفه انه إختلف معهم، في وقت مبكر ابان اللجوء السياسي، فجمد عضويته، وتوقف عن استلام راتب اللجوء السياسي، وانخرط بسلك التعليم كمدرس للغة الانجليزية في دمشق، ليكفل لنا العيش الكريم، والطريف أنه مع تقدمه الوظيفي وترشيحة لاستلام منصب مدير عام ضريبة الدخل، أفهموه أن ملفه لم يغلق، وعليه استنكار الحزب (الهدام) حتى يحصل على المنصب الرفيع، فرفض، وطلب إحالته الى التقاعد،وهو في عز عطائة، بعد تعيين عبد الله النسور مديرا عاما، الأقل منه علما وخبرة ومرتبة (حينها)، وهو المعروف بنزاهته ومعاركة مع قوى الفساد، أذكر حجم حزنه وغضبة بعد توالي انشقاقات الحزب، ونشر كل الغسيل، وكيف تم كشف كوادر في غاية الأهمية، بقيت سرية لفترات طويلة نتيجة التلاسن المتبادل، لأوكد أنه من أكثر من عرفتهم اخلاصا للماركسية التي عبر عنها ممارسة صادقه في بيته ومعنا ومع كل من عرفه من الكادحين…..

في زياراته المتقطعة لي في بيروت أعدنا معا اكتشاف المدينة، رغم جولات الحرب الاهلية القاسية ، وهناك أكد معلومتي الغائمة عن كونه شاعرا، وعرفت انه شاعر محب للحياة شغوف بالطرب وعاشق للنور كشقيقه عرار..في احدى جولاتنا على شاطيء الروشة اخبرني كيف باع ساعته في القاهرة عندما كان طالبا، ليشتري بطاقة لحفل ام كلثوم التي كان يعشقها…..

في منتصف الثماننيّات عندما استقر امري في البلاد، لم اعرفه أبا بقدر ما عرفته صديقا مصرا على النديّة في علاقتنا، وان كان يتحفظ بهدوء على بعض مواقفي، واحلى تحفظاته، معاتبتي الرقيقة على علاقتي بالغجر ودعواتهم المتكررة الى بيتي، فأجبته بزلاقة لساني المعهودة ( عشق الغجر يجري في دماء العائلة) لاحت من خلف كشرته التقليدية ابتسامة، وعندما دعوتهم بعدها عاد لمشاركتي السهر والرقص سويّة على انغام ربابة عارف وصوت سعاد حتى الصباح…..

قصة بابا قصة طويلة، مواقفه السياسية التي تعكسها كتاباته الكثيرة التي تركها لي، التي تنم عن وعي وثقافة عالية، شعره الذي أبى ان ينشره ابان حياته،_ نشرت له قصائد دون علمة وكان يغضب ـ فصار ان فوضني بأمره بعد موته…

مواقفه الاجتماعية المتقدمة التي اتخذها وكانت تسندني في كل ما تعرضت اليه، لأقول أنه أكثر الرجال اللذين عرفتهم نسويّة وايمانا بقضية النساء، فكانت ماركسيته أصيله ونسويته ممارسة   .

بابا….أعرف كم تحملت نزقي وشغبي ومشاكلي المهنية والسياسية، اعرف انني كنت ادفعك للغضب الصامت، والكثير من الاحراج، لكنك لم تتخل عني يوما، وساندتني في كل ما مررت به، رغم اختلافك معي احيانا….وبعدك وعلى الرغم من كل القوة التي زرعتها فيّ، أشعر أنني معلقة بالفراغ….

………………………………………….

من قصيدته في رثاء رفيقة المناضل المحامي محمود المطلق ( الصورة) اربد في 12-3-76

جف الندى

جف الندي…. وعلى ربوعك اربد الخرزات اطبق مرعدا

محمود مات …..محمود داهمة الردى

جف الندى…… والصوت عاد معربدا ومرددا

محمود عاد لشعبة خيال الفدى….. للجائع المحروم عنوان المحبة والاخوة والندى

لم يطلب الجاه الرفيع ، وليس للالقاب في مفهومة غير الاذى….

:………………………………………………………………….

الصور: من اوراقه مشروع برنامج لتفعيل الديمقراطية

الصور الشخصية بعدستي