بدأت حكايتي مع فلسطين منذ الطفولة البعيدة، أذكر وعلى نحو ضبابي، جدتي (نوفة اليوسف) تقودني من يدي، نقطع الشارع الفاصل بين كرم على نيازي ومجاميع من البيوت المبنية على عجل، من حيطان طينية وأسقف زينكو، تأخذني الجدة الي بيت (أم إبراهيم) أذكرها بثوبها الأسود المطرز بالأحمر، ووشائحها الأبيض ينسدل الى منتصف ظهرها، تنحني على سطل الحليب لتكيل لجدتي ما تريده من الحليب، كان معروفا بإسم (حليب اللاجئين) لا أذكر شكل بيتها، فقط الحوش بما فيه، بقايا خيمة تظلل مساحة من الحوش، دوالي متعربشة و مجموعة من التنك زرع فيها النعنعناع والبقدونس….عندما نشرف على المغادرة، تقترب مني وبيدها حبة (راحة الحلقوم) وتهمس وهي تقبلني (هاي إلك، لا يوخذوها منك) فأبادلها القبلة فرحة بحبة (راحة الحلقوم )
كنت أسال جدتي في طريق العودة ( ليش بنشتري حليب وإنت عندك بقرة بتطلع حليب) فكانت تجيب بغموض ( يما الله يعين الناس على حالها، هذول يما اليهود أخذوا بلادهم وشردوهم، وهيهم لاجئين عنا، الله بيعلم إيمتى بيرجعوا لبلادهم وخيراتهم….)
في دمشق الحقوني بمدرسة إسمها مدرسة (ست الشام) وكنا نسكن بحي الأكراد القديم، المدرسة تشغل بناء دمشقي قديم، تزيّن ساحتها أشجار الكبّاد والياسمين، أحببتها، ذهبت الى صفي فرحه أغالب قلق اليوم الأول، نظرت حولي، لا أعرف أحدا، إنزويت في ركن بعيد، عندما جاءت المعلمة، لاحظتني، فطلبت مني التقدم الى صف المقاعد الامامية، ( كنت قصيرة، ضئيلة الحجم)، رمقتني الفتاه التي أعطتني مكانها بغضب، سألتني المعلمة عن إسمي، ومن أين؟ أجبت باستحياء إنفجرت البنات بالضحك وصرخن (لاجئة يا معلمتي)
(لاجئة) هكذا….كلمة واحدة … صفعة واحدة… أصابتني بالدوار تذكرت (أم ابراهيم)، وبقايا الخيمة في الحوش، صمت، أغالب سيلا من الاسئلة، اليهود، بيتنا في اربد، كرم جدي على نيازي،…أسئلة قذفتها في وجه أمي دفعة واحدة، بحنانها المعهود شرحت لي…. لم يختلف الأمر كثيرا في عقلي الصغير، فأن يسرق بيتك اليهود ويطردوك، أو يلاحقك أشرار يريدون قتل والدك ويدفعونك الى الهرب، لا فرق، يعني إحنا لاجئين….. وبدأت أكبر و أصطدم بوقائع تعلمك معنى أن تكون لاجئا…. ..
عندما صدر العفو وعدنا الى إربد، كانت أولى رغباتي زيارة (أم ابراهيم)، ولما لم يأخذني أحد، ذهبت لوحدي، تغيرت معالم المكان، ضعت في أزقة المخيم….عندما عدت بعد وقت طويل، وبخت بقسوة، وكاد التوبيخ يتحول الى علقة ساخنه من أحد اقاربي، مع تنبيه حازم بأن لا أقترب من مخيم اللاجئين، فصار البحث عن (أم ابراهيم) فكرة تراودني بقلق، وأنا أسير عبر كرم علي نيازي بمحاذاة طريق المخيم….
حدثت المصيبة الكبرى مع تفتح أولى براعم الوعي، هزيمة حزيران، أضيفت مخيمات جديدة وتغير شكل القديم منها، وتغيّر معنى اللجوء …….
لم يعد المخيم مجرد بيوت متلاصقة وأزقة غارقة بمياه المجاري، مكتظة بالاطفال المرضى، والنساء الناقمات، صار حاضنة الثورة، تحولت كلمة لاجئي الى كلمة فدائي، صارت زيارة المخيم حيث المكتب المركزي للتنظيم، لا تتطلب إذن احد، لكنها قد تتسبب بتوبيخ شديد اللهجة … …
في مخيم إربد بدأت التحول التدريجي من لاجئة نفسيا إلى مشروع نضالي، ومن هناك حملت صورة أم ابراهيم، وجيفارا، ومطبوعات التنظيم، وإستهوتني فكرة حمل السلاح…..
هذه الصورة هبطت من علياء رومانسيتها الى قسوة حقيقة الواقع بعد الهزيمة الثالثة (أيلول والخروج من الأردن) ، كنت قد عدت للتو من بلغراد الى دمشق ومنها الى بيروت، قسوة الحدث اكبر من طاقتي على الإستيعاب، عندها علمت بإعتقال مجموعتي ممن بقوا في إربد، ومن بينهم أولاد عمي، وما بين القلق على المعتقلين والقلق على الخارجين الذين رفضوا الإنسحاب من إربد، لكنهم إضطروا إليه، وجع كبير يمتد على مساحة دموع الرفيق ( أبو الجاسم) التي بللت لحيته الكثة، وهويصف لي ماحدث، ويخبرني برحيل (أبو فراس) الذي لم يحتمل، فإنتحر بالسلاح المفترض أنه لقتال العدو…..
في مخيمات بيروت، ما بين القلق على المستقبل ومحاولات الخروج من الأزمة بأقل الاضرار الممكنة، بقيت أرواح بين صبرا والفاكهاني لتقديم ما يمكن تقديمة، بدأت الروائح الكريهة تفوح، إهتزت كل الصور، إقتربت من اللا يقين، لكن يداً قوية إمتدت لتسندني، كان (الاستاذ) الى جانبي، يساعدني على التماسك، وهكذا إرتقيت من لاجئة لأحمل لقب (زوجة لاجيء فلسطيني) هكذا سجل في وثيقة إقامتي اللبنانية الرسمية…..
وبدأت الحرب، يأخذ المخيم وجها آخر، على حافة مخيم برج البراجنه، في منطقة تتوسط بين المخيم وحارة حريك الحي المسيحي، كنت أقيم، بيتي بواجهاته الزجاجية يقابل برج الكنيسة التي إحتلتها قوات الكتائب، وعند بوابة البناية التي أقطنها نصب المتراس الأول للفدائيين كنقطة دفاع أولى، وبينهما تتطاير القذائف ورصاص القناصة، فوق رأسي، الشباب على المتراس أصبحوا أولاد سكان البناية،، أذكر جارتي الطرابلسية، تستغل فترات الهدوء لتنزل وجبة ساخنة وإبريق الشاي، نقلق عليهم عندما نضطر للنزول الى الطابق السفلي، وكنت أتابع مايحدث، وأكتب ما أتمكن من كتابته …. أنتقل بين المنطقتين الغربية والشرقية برفقة زميلة لبنانية، هناك في الشرقية أعبر الحواجز بجواز السفر الأردني، وبحكم وثيقة إقامة زوجة لاجىء فلسطيني( التي أخفيها جيدا عندما أكون في الشرقية) أعبر حواجز الغربية، وهكذا كنت أعيش وأكتب وسط رائحة الموت والكراهية في كل مكان ……
بقيت صورة الفدائي التقليدية لفترة، إستمر الشرفاء بخوض المعركة، التقيتهم في معظم المحاور، يخوضون ببسالة معركة تعقدت وتشعبت روافدها، إختلط فيها حابل الرجعية بنابل الصهيونية، وسط حاضنة من الفساد، أو التخلي، حقيقة، لا أحد ينسى صمود عين الحلوة (واطفال الار- بي- جي)، لكن الروائح الكريهة زاد إنتشارها وطالت يوميات الفلسطينين واللبنانيين معا، لتصنع الهزيمة الرابعة الخروج من بيروت ….
كانت أدواتي قد تغيرت في مواجهة الواقع السياسي والإجتماعي للمخيم واللجوء، كتبت الكثير مما يصنف بالمادة الصحفية الفلسطينية، وفي معظم المؤسسات التي عملت بها، زرت مخيمات، وقابلت كثيرين كتاب وشعراء وسياسين، إختلفت وإتفقت، لكني بقيت أتوق لمخيم (أم إبراهيم) …….
سنحت لي فرصة العوده الى المخيم بعد سنوات كباحثة، مسلحة بعقلانية باردة ومنهج علمي صارم، كانت التجربة الأولى أثناء إعداد كتاب (مدينة الورد والحجر: دراسة في جريمة الجنس في المجتمع الأردني)، كان علي الغوص في قيعان المدينة وأطرافها بما فيها من مخيمات، تنكرت بالعديد من الشخصيات كي أتمكن من التجول في هذا القاع بأمان، وبمساعدة اصدقاء أدين لهم بالكثير، لم أفاجأ بما وجدت، كنت أعود بعد كل جولة فجرا( عالم القاع في المدينة أو المخيم لا يظهر على حقيقته نهارا) لأسجل ملاحظاتي ملتزمة الصمت، تطاردني صور الذين عرفتهم وأحببتهم من أبناء المخيمات، ورحلوا في مواقع القتال العديدة، تقابلها صور من إلتقيتهم من رموز قاع المكان، كنت أتسائل بسري، ماذا لو صمدت المقاومة المسلحة، وإستمر المخيم بدوره كخزان للثورة، هل سنصل الى ما وصلنا اليه؟ أعرف أن الإجابة ليست بالبساطة المتوقعة، وأن التغيير الاجتماعي الاقتصادي والسياسي المشوه والمتلاحق، ترك آثاره المدمرة على البنى الاجتماعية كافة، لكني بقيت أردد بطوباوية، بأن لا يليق بهذا الشعب، بما له من تاريخ حضاري ونضالي أن يصل بعضه إلى ما شاهدته وسجلته في بحثي….
ولأنني دائمة السؤال والبحث عن إجابات، إستفدت من فرصة عودتي بعد سنوات، في بحث حول (أوضاع النساء والاطفال في مخيمات اللاجئين في الاردن) هذه المرة لم يقتصر الأمر على مخيمات ضواحي عمان، بل شمل ثمانية مخيمات، منها ماهو بعيد وغير مسجل على لوائح الاونروا، تعمدت في خطتي البدء من المخيمات البعيدة عن عمان، مما يتطلب أحيانا المبيت في المخيم، الأزقة الضيقة كما هي، والبيوت المتلاصقة ذات الطابق والعليّة الصغيرة، ظلت متلاصقة لكن على مستوى عدة طوابق، الأطفال كما هم حفاة أنصاف عراة، والسيدات الناقمات إزدن نقمة، عيادات الأونروا المكتظة من أجل حبة مسكن الم، والمدارس المكتظة ويجري التحايل عليها لافراغ دورها من مضمونه، شباب يتكئون على الجدران، وصبايا يهرولن في الأزقة مسربلات بألوان قاتمة…….
في العديد من المجوعات المركزة التي نظمناها كنت أنتحي جانبا، أترك للصبايا مهمة إدارة الحوار، لأقرا لغة الجسد والوجوه، الطيبة هي الطيبة، لكن الصلابه تلاشت ليحل مكانها حزن عميق، أكثر ما كان يؤلمني شكوى النساء من التمييز ضد اللاجىء الساكن بالمخيم، الامر الذي أعرفه وعشته بنفسي، الصبايا مسكونات بتوتر لا يعرفن كيف يعبّرن عنه أو يفسرنه، كلمات قليلة وينيهن الحوار، وحدها الخبرة والمحبة و صبر أيوب في جو من السريّة التامة، ما يساعدهن على فك عقدة السنتهن، لتنداح تفاصيل المآسي فيختلط الكلام بالنشيج، وأحار بتعريف نفسي لنفسي، هل أنا باحثة أم مصلحة إجتماعية، يد المساعدة مغلولة الا في حدود ضيقة، وبسرية تامة، فسلاح القتل لأتفه الأسباب جاهز، والمبرر مقبول، ومنابر التجريم والتكفير حاضرة وبقوة….. أداري قلقي وأبحث في وجوه النسوة الطيبات عن (أم ابراهيم) وما أن أجد ما يقترب منها، حتى أضيعة في زحمة الوقائع والبيانات والقصص المؤلمة….
لكن الصورة لم تكن دائمة القتامة، إذ كان فيها ما يعنينا على الاحتمال بقليل من الفرح، أذكر بداية العمل في مخيم (الطالبية) وكنت في مرحلة تدريب المرشحات للعمل، كان الجو حاراً وسقف قاعة التدريب التي تمكنا من حجزها مسقوفة بالواح الزينكو، سألت الصبايا وأنا أتصبب عرقا، (ماهي الحالة التي يمكن ان نواجهها عند عقد المجموعة المركزة وتؤدي الى تشتيت المشاركات وتخريب العمل) فأجبن: ( معرفة النساء المشاركات بخبر توزيع مساعدات في الخارج، سيتركن المجموعة، ويهرولن إلى مكان التوزيع) لم أصدق، وعندما بدأنا بالتدرب بطريقة لعب الادوار، وحولنا المشاركات إلى مجموعة مركزة تديرها واحدة منهن، جاء صوت من الخارج ينادي على النساء بان سيارة النائب (….) توزع الدجاج، فتراكضت المشاركات الى الخارج وبقيت في القاعة وحيدة، لا أعرف إن كان خبر التوزيع صحيحا، أم انهن استغرقن بالدور وأعدن أدائة ، ولم أعرف حتى عادت المشاركات وقد غسلن وجوههن ( بوردن) وأنا أتصبب عرقا، الطريف أننا واثناء العمل الميداني بجمع البيانات، وقعنا فعلا بالموقف ذاته، وفي أكثر من مخيم، وكنت أنا من يدير الحوار، فأضطر لإلغاء العمل وإعادته في وقت لاحق، لإستحالة إعادة المشاركات ذاتهن الى قاعة الاجتماع، طبعا وسط تندر الفريق (قلنالك وما صدقتي)
بالتدريج بدأت صورة (أم ابراهيم) تغيب، ليحل محلها نماذج لا تبتعد في جوهرها عن ما حملته (الصورة القديمة) الطيبة، الصلابة، والإصرار على تجاوز واقع اللجوء، لكن لكل مرحلة واقعها، وطبيعة وأدوات مواجهتها، فكان بعض اللذين إلتقيتهم وعملت معهم، (أم عباس) و(نوال) و(رحمة) و(نجاح التي اصبحت نائبة فيما بعد) وغيرهن كثيرات، كذلك شباب وصبايا دربتهم وعملت معهم طيلة سنة كاملة في البحث وجمع البيانات وتحليلها بدقة، نماذج قدمت أفقا آخرا لصورة اللجوء والمخيم….
لم أجد كل الإجابات التي أنتظرها، قلقت من إستبدال صور (جيفارا) و(ابو عمار) و(الحكيم) بصور ( أسامة بن لادن ) و(عبد الله عزام) في بيوت كثيرة، وفي أحيان قليلة (الشيخ احمد ياسين)، وضايقتني السماء الضيقة فوق الأزقة الملونه، كحبل غسيل بما يحمله من رايات سوداء وخضراء وبيضاء وغيرها من الوان الطيف، فتتدارى راية الوطن خلفها خجلة……
صحيح أنني اضطررت وفي أحيان كثيرة لتغطية شعري كي أتمكن من العبور الى مكان عملي من دون مضايقات، أو لأتمكن من إقناع أحد مسؤولي المخيم بالموافقة على قضاء حاجة لغايات البحث، فضلا عن مجابهة العسس ومساعديهم من المتأسلمين وإشاعاتهم لعرقلة عملنا،…. شكليّات كثيره إضطررت للالتزام بها لمصلحة إستمرار العمل، لكن ضيقي يتبدد عندما أصل المركز، خليّة النحل كما كنا نسميه، لأتناول كوب الشاي الساخن بالميرمية، (يالله اشربي شاي اللاجئين)، أرشفة على مضض، والصبايا يتضاحكن من حولي لأنهن يعرفن أنني لا أحب الميرمية، أرشفة وأهمس بسري ليت حياة اللجوء تقتصر على شرب الشاي بالميرمية التي لا أحبها…..أشربه وأتأمل الحائط امامي صورة القدس، لوحة حنظلة مع صورة ناجي العلي وبرواز لاية الكرسي مطرزة بالقطبة الفلسطينية، أتأمل واقول لنفسي (اي لسه في أمل)