
لكل تجربة نكهتها الخاصة، ولكل تجربة نهاياتها، والعمل الصحفي تجربة وصلت الى نهاياتها، ومؤسسات العمل الصحفي، من التجارب ذات النكهة المؤثرة، فهي كالمدن، منها ما تحبك وتحبها، فتبقى فيها ومعها لاطول فترة ممكنة، ومنها ما لا تحبها ولا تحبك، فتهرب منها بأسرع وقت ممكن، ومنها ما تحبها لكنها لا تحبك، فتمضي معها قلقا مترددا حتى تفكر بالاعتزال …،
عملت في هذه الأنواع الثلاثة، وإن كانت الكثرة للتي احببتها ولم تحبني، تلك هي المؤسسات الأردنية، وعملت فيها، لأني أحب عملي، والخيارات قليلة، ثم ان العمل بالنسبة لي ليس ترفا، بل ضرورة وجودية، كوني أعرف نفسي بأنني (كائن منتج)
أتوقف مع التجربة الأجمل، الخاتمة الأجمل، تلك التي أحببتها وأحبتني، فأعطيتها أفضل ما إستطعت، وأعطتني أجمل ما أردته من عملي الصحفي ……. عن مجلة صوت الوطن أتحدث، وتحديدا عن فترة تعاوني معها بيّن سنوات 90 و93
مجلة فكرية منوعة، صوت عربي بنكهة فلسطينية، ضمّت بين دفتيها كل ماهو إنساني ونبيل من فكر وسياسة وإجتماع وثقافة بكل تنوعاتها….،
عندما طلب مني التعاون مع المجلة، في فترة كنت أعاني فيها ما أعانيه من متاعب العمل في آخر صحيفة عملت بها، وافقت من دون تفكير، فقد تأكدت أن شراكة الفكر والأدب ممثلة بالمفكر الفلسطيني الدكتور ماهر الشريف،رئيس التحرير، والأستاذ محمود شقير، المثقف، المدرسة، في القصة القصيرة والرواية، محرر الشأن الثقافي في المجلة، هذه الشراكة المؤطرة بمرجعية سياسيّة وفكريّة عميقة ( أصدر المجلة حزب الشعب الفلسطيني) سنتنج الأفضل….
ما ميّز هذه المجلة تنوعها، وعمق موادها التي تختلف بالتاكيد عن المعالجات السريعة التي تتسم بها الصحافة اليومية والمجلات الأسبوعية، فضلا عن أسلوب طباعتها وإخراجها الجميل الذي أطر مضمونها الجاد والعميق، فلم تقع فيما وقعت فيه العديد من المطبوعات الفكريّة والحزبيّة من جمود في الشكل والمضمون.
مكتبها في عمان، على الرغم من إنشغاله الدائم، هاديء ودافيء كالشعلة التي تنيره، محمود شقير….هذا الهدوء الدافيء، شكل واحة ركنت اليها، لأفكر بصوت مرتفع، من دون خوف او قلق من شرطة القلم بيد المحرر، أو على أصابعي، و( أبو خالد) بإنفتاحه المبدع على كل الأفكار، كان دائم الإستماع، وممارسة التوجيه أو التكليف اللطيف….
تعود معرفتي بالاستاذ محمود ( أبو خالد) الى نهاية سبعينيات القرن الماضي، عندما إنتسبت الى رابطة الكتاب الاردنيين، وكان ركنا مهما من أركانها، مدرسة مفتوحة، يجتمع فيها الأدب والنضال والأخلاق، لكل من أراد التعلم، وكنت واحدة منهم، أنهل ما إستطعت من هذا الفيض المتدفق، والتجربة الغنية، إلا أنني عرفته أكثر في صوت الوطن، في هذه التجربة كنت لا أعمل فقط، بل كنت أتعلم، وأسترجع ما سبق أن غاب وراء صدأ الايام، فمن الحورات الفكرية الغنية بتوقيع الدكتور ماهر، الى المتابعات والتحقيقات والحوارات التي ترسل من الارض المحتلة، وتجعلنا على تواصل حميم مع الأهل هناك، اذكر هنا عودة الصلة بالشاعر الصديق سميح محسن التي تربطني به صداقة خاصة إبان عملنا بالكويت، عبر سلسلته (يوميات مواطن فلسطيني تحت الاحتلال) فضلا عن عشرات الكتاب والصحفيين من مشارق الارض ومغاربها، عبر مقارباتهم الأدبية والسياسية والإقتصادية، كوكبة من خيرة المثقفين، نلتقي في المكتب بضيافة أبو خالد، وجاهيا، أو على صفحاتها فنتبادل الآراء فيما كتبنا وقرأنا، لا أستطيع إدراج أسماء كل من كتبوا في المجلة، لكن الصديق عوض فريد أنجز توثيقا مهما لكل ما كتب فيها (صدى صوت الوطن)…..
فيها إستعاد قلمي حيويته فكتبت المتابعة الصحفية والتحقيق وأجريت حوارات وأدرت سلسلة من المؤائد مستديرة، لمناقشة أبرز إشكاليات المرحلة الفكرية والسياسية، من أبرزها ( العلاقات الاردنية الفلسطينية ومستقبلها) و( اليسار الفلسطيني بين إشكاليات الحاضر وآفاق المستقبل) و ( اليسار الفلسطيني وإشكالية العلاقة الاردنية الفلسطينية) وغيرها، شارك بها مجموعة من نخبة السياسين، أترحم على من رحل منهم، وأدعو بطول العمر لمن تبقى، وآسف على من نقل البندقية من كتف الى آخر
في صوت الوطن عشنا يوميات الانتفاضة بكل مافيها من ألق، بما وصلنا من أخبارها الطازجة، وماكتبناه من متابعات، أذكر أني أنجزت عدة مواد منها (الإنتفاضة والأطفال في المخيمات) و ( المسألة الاجتماعية: انتفاضة في الإنتفاضة) و ( الأسرة في الإنتفاضة)
ومن التحقيقات المميزة التي تعبت وفرحت بكتابتها، تحقيق مطوّل حول (الغجر) وآخر حول تاجرات الجنس وحمل عنوان ( المومسات ضحايا ام ساقطات) وغيرها
فيها إستعدت شهية كتابة القصة القصيرة، فكتبت ونشرت ما إعتبرته الأجمل قصة ( موال)
في صوت الوطن أنهيت احترافي لمهنة الصحافة، بأجمل ما يمكن أن تكون الخاتمة، وقد وجدت طريقا آخر لمتابعة الشان الفلسطيني، غادرتها بإعتزاز وفخر بما قدمته لها، وما قدمته لي، وكان أحلاه ذلك الإقتراب من الأهل في فلسطين، الأمر الذي أفرحني حتى البكاء، عندما زرت فلسطين للمرة الأولى بعد هزيمة حزيران، عام 2002 لأجد نفسي بين أصدقاء يعرفوني بما كتبت في صوت الوطن…..
صوت الوطن مجلة شهرية صدرت من قبرص سنة 89 ترأس تحريرها المفكر الدكتور ماهر الشريف حتى سنة 98 ثم انتقلت للصدور من رام حتى سنة 2003 وترأس تحريرها الأستاذ حنا عميرة، وتوقفت عن الصدور لأسباب مالية