
يقال أن الصحافة مهنة المتاعب، وأنا تخصصت في البحث عن زيادة المتاعب، فإبان مهمة في ليبيا لتغطية مؤتمر وزراء الثقافة العرب عام 79، قادتني شقاوتي المهنية لزيارة مكتب ( الجبهة الشعبية لتحرير الساقية الحمراء ووادي الذهب- البوليساريو) وهي منظمة تقاتل لتحقيق إستقلال الساقية الحمراء ووادي الذهب وإستعادة ثرواتها الطبيعية البحرية والبرية، التي منحت للشركات الإسبانية بعد (الإستقلال) عن طريق إتفاقيات ومعاهدات مجحفة وقعها المغرب مع اسبانيا، هناك وجهت لي دعوة لحضور إحتفالات العام الأول على إعلان (الجمهورية العربية الصحراوية) وبدون تردد قبلت…..
سافرت بعد إنهاء مهمتي في ليبيا، الى الجزائر برفقة زميل ليبي، كنت قد تعرفت عليه عندما كنت أغطي مؤتمر قمة بغداد سنة 87 اثر توقيع اتفاقيات كامب ديفيد، – ولهذه المهمة قصصها الطريفة ايضا – وإستمرت صداقتنا طويلا، حتى قتل إبان الربيع الليبي وبطريقة وحشية رحمه الله، لا أنسى لطفه ومراعاته لي طيلة فترة إقامتي بالصحراء، وقيامه بدور المترجم بين اللهجة المغربية واللغة العربية، بخاصة عندما تكون المتحدثة صحراوية جميلة ومعظمهن كذلك…..
في الجزائر إستقبلت بحفاوة من قبل كوادر الجبهة، كوني أول صحفية عربية مشرقية، ومن الأردن، تصل اليهم، لكن هذه الحفاوة لم تمنع مسؤول العلاقات العامة، من أخذ توقيعي على إقرار بأني أسافر الى الصحراء على مسووليتي الشخصية، مع إدراكي لكامل المخاطر المحتملة لهذه الرحلة، وعندما إستفسرت عن السبب، قال وهو يضحك (انت ابنة عائلة أردنية معروفة بقربها من النظام، ولا نريد ان تستغلي للتسبب بأزمة بين الجزائر – الدولة المضيفة لنا- والأردن، في حال حدث شيء لا سمح الله) وقعت التعهد وإنطلقت برفقته الى المطار…
من مطار الجزائر العاصمة طرنا فوق الصحراء الى جهة مجهولة، ثلاثون شخصا من جنسيات مختلفة، لم تكن طائرة عادية، ولم نكن ركابا عاديين….. الطائرة عسكرية مخصصة لنقل المظليين، وكنا جيشا من الصحافيين وعدد قليل من الصحافيات الاجنبيات وحدي العربية القادمة من أقصى الشرق العربي، بكامل عتادنا من ورق واقلام وأجهزة تسجيل وكاميرات….
لمدة أربع ساعات، تعلقنا بحبال جلوس المظليين، ومن تَعِب جلس على صناديق الذخيرة، رحلة زاد شقائها المطبات الهوائية، ومع كل مطب، أفكر بإمكانية نشر مادتي الصحفية، في بلد بحالة أحكام عرفيّة وتربطة علاقة قوية بالمغرب، الطرف الثاني في الصراع، ما كان يشجعني عملي بجريدة متواضعة وفقيرة لكن سقفها مرتفع قياسا ببقية الصحف الأردنية ( جريدة الأخبار).
لم ينته التعب عندما هبطت الطائرة في مطار في أقصى الحدود الجزائرية- مطار تندوف- كان علينا الإنتقال بالشاحنات العسكرية الى داخل الأراضي الصحراوية بعيدا عن الحدود الجزائرية، ساعات قضيتها وأنا (أتنطنط ) في الشاحنة على دروب الصحراء التي يعرفها فقط ابناء البوليساريو، علما بانهم (دللوني) وأجلسوني في المقعد الامامي للشاحنة، إلى جانب السائق….
مر كالحياة…. حلو كالحب…. ناعم كالموت، ثلاث صفات لثلاثة أكواب من الشاي الصحراوي، ثلاثة أكواب قدمتها مضيفتي الصحراوية، ولما سالتها ، لماذا؟ قالت عاداتنا، الكأس الأول مر الطعم، الثاني أكثر حلاوة، والثالث متوازن، إرتشفت الأكواب الثلاثة شاكرة لفحة الدفء بعد إحساس مريع بالتجمد، بعد رحلة طويلة وسط ليل الصحراء قارص البرد، وصرت أنتظر بعد كل جولة على المخيمات أو المواقع القتالية أكواب الشاي الثلاثة، المر كالحياة، الحلو كالحب والناعم كالموت ولكل كوب حلاوته الخاصة به……
أيام ممتعه ومتعبة ومليئة بالخطر، بخاصة عندما أذهب الى المواقع الأمامية للقاء المقاتلين، الذين يباشرون الحديث معي بالأسبانية أو الفرنسية (مع اللثام على طريقة الطوارق الذي لا يظهر سوى عيوني، شكلي لم يكن يوحي على الاطلاق بأني عربية) ليبادر مرافقي بشرح وضعي وأنني قادمة من أقصى الشرق، كنت ألاحظ الإستغراب في عيونهم المتعبة، لكن تهذيبهم الرفيع يمنعهم من التعليق، فيكتفون بالترحيب الحار وترتيب مكان آمن لجلوسي في الخندق……
كتبت الكثير من الملاحظات وأجريت العديد من المقابلات مع قيادات البوليساريو، ومقابلة (مع سعد الدين الشاذلي) بطل معركة العبور، وكنت ألتقيه للمرة الاولى، وسهرت معه طويلا في ليل الصحراء، حدثني بمرارة عن بعض جوانب الحرب التي حولوها الى هزيمة أدت الى كوارث الصلح والسلام الكاذب، نحتسي الشاي المر كالحياة، الحلو كالحب، والناعم كالموت، وكان بالنسبة له مر كالحياة فقط هكذا قال …
في مخيم (السمارة) في أقاصي الصحراء أمضيت عدة أيام، تعرفت على العديد من النساء وكلهن جميلات بشكل لم أستطع تحديده، جمال يعبّر عن ذاته، تطل الصحراوية بوجه برونزي على قامة منحوتة بإتقان، تلتحف رداء يقال له ( الملحفة) يشبه زي المراة السودانية الشعبي، كلهن عضوات بالجبهة، يقمن بالكثير من المهمات، تبدأ بإدارة شؤون المخيم عبر اللجان المتعددة، ولا تنتهي بالقتال على الجبهات، نساء قويات ولطفيات وشغالات كالنحل، ويجدن الوقت للتجول معي في مرافق المخيم، نتحدث باللغة العربية الفصحى او يقوم عمر السنوسي بالترجمة، وفي المساء نجلس في ضوء القمر، نشرب الشاي على وقع أصواتهن الجميلة تترنم بالأغاني الصحراوية ….
إنتهت مهمتنا، عدنا الى الجزائر بذات الطائرة المخصصة لنقل المطليين، وصلت الفندق في منتجع ساحلي مخصص لضيوف الجبهة، بعد منتصف الليل، مهدودة أشعر أنني تحولت الى تمثال من الرمل المتماسك بما في ذلك شعري الطويل الذي على الرغم من جمعه وتغطيته، تحول الى ما يشبه الشوك، لكن للأسف – هكذا قال النادل المهذب- لايوجد ماء ساخن ولا طعام…. غامرت، بمياة مثلجة حاولت الإغتسال لأخفف قدر الإمكان من الرمال الملتصقة بجسدي وشعري، تجمدت وإنتظرت الصباح لأنطلق الى المطار …..
وبدأت الكوارث …..
حملت حقيبتي الصغيرة بما فيها من أمتعة قليلة وأوراق وافلام مصورة وصعدت على الطائرة السورية، لتعيدني مطار دمشق ومنه الى مطارعمان، أصر رجل الأمن على التفتيش بجهاز الأشعة،كانت اجهزة قديمة، وأنا أرجوه أن ينتظر حتى أخرج الافلام المصورة، من الحقيبة، كأي رجل أمن لم يستمع، ومرر جهازه على الحقيبة وعلى جسدي عدة مرات، ببساطة إحترقت الأفلام ولم أحصل منها إلا على عده صور غير صالحة للنشر….
فكرت وأنا أنتظر الطائرة المغادرة إلى عمان في مطار دمشق الدولي، إلى أنني سأتعرض للمتاعب في المطار، كما هي العادة، فغادرت قاعة الترانزيت وإستاجرت سيارة توصلني الى إربد عن طريق البر، ظننا مني أن العبور عبر الحدود البرية( الرمثا حينها) ستكون أسهل، والمسافة أقرب، للتحوط قمت باخفاء بعض الأوراق والأفلام في ملابسي، وتركت في حقيبتي ما تبقى، لكن وعلى الرغم من بلوغ الحدود عند منتصف الليل، وجدتهم بإنتظاري، أدركت حينها أن زيارات أفراد من مكتب البوليساريو لي في الفندق لم تذهب عبثا، فقد لفتت أنظار الوفد الصحفي، ويبدو أن أحدهم تطوع لنقل اخباري منذ وقت مبكر، كانو يعلمون أنني قادمة من الجزائر، وسين وجيم حتى مطلع الفجر، صودرت أغلبية الأوراق والأفلام، ولم يتبق لي إلا ما أخفيته في ملابسي، إذ أن السيدة التي ايقظوها لتفتشني كانت (نعسانة) فتشتني بسرعة وهي تشتم -بصوت خفيض- سلالتي حتى الجد العاشر….
وصلت بيت والدي في إربد صباحا، يهدني التعب، فإستسلمت لنوم عميق، حتى قبل أن أغتسل، لكن ما لم أتوقعه أن توقظني أمي لأقابل وفدا من العائلة، حضروا لإستنكار فعلتي الشنيعة بالسفر الى الجزائر دون علم أحد، والله وحده يعلم ماذا فعلت في الصحراء مع الانفصاليين، وأي إحراج سأسببه لهم عند حكومتنا الصديقة للمغرب، هنا لم افتح فمي بكلمة، بقيت متسمرة كتمثال رملي متماسك، ولم أكن قادرة أصلا، بفعل الإرهاق، فقط كنت أتساءل كيف عرفوا؟ ولم أصل الى عمان ولم أنشر شيئا بعد، تكفل والدي كعادته بمساندتي، وأسكتهم، كذلك فعلت الوالدة……
بعد عودتي الى الجريدة قرر رئيس التحرير( ابراهيم ابوناب) رحمه الله، أن أنشر مادتي على حلقات، ولم تفلح كل محاولاتي لإقناعة بعكس ذلك، لأني كنت أعلم أنهم سيوقفون النشر بعد الحلقة الاولى، فما كان مني إلا أن كتبت كل الأبعاد السياسية لقضية الصحراء في الحلقة الأولى، وأجلت ما تبقى من مقابلات وقصص إنسانية، وهذا ما حدث، فما أن نشرت الحلقة الاولى حتى قامت القيامة ولم تقعد، توقفت الجريدة عن نشر ما تبقى.. وانا كالعادة دعيت الى شرب فنجان قهوة في البناية الزرقاء(هكذا كنا نسميها) ….. وما زلت الى اليوم أشرب الشاي الأخضر على الطريقة الصحراوية، مر كالحياة…. حلو كالحب…. ناعم كالموت……